الجمعة، 7 نوفمبر 2008

ضحيتي الأخيرة..



أحمد ولد إسلم
لم تكن لدي القسوة الكافية لأقطع صوتك اللاهث في الهاتف بخبر كهذا، وكنت أنصت بسادية فجة لخرير المشاعر المتدفقة من قلبك كشلال جبلي صافي المعين، فيما أنا في تلك اللحظة تسابقني أناملي الخشنة إلى لوحة المفاتيح لأهدم أساس ذلك الصرح الذي تقفين الآن في ظله الوارف وأنت تتأملين باعتزاز كيف استعطت تشييده من الرؤى والأحلام والكلمات الرقيقة..ولم تكوني تدركين أن السنة التي أكملتها في زخرفته تكفي نقرة واحدة على زر "الموافقة" لنسفها..
ما كان يغيب عن ذهني أنك الآن منهمكة في تغليف الهدية التي جمعت ما استطعت من مصروفك طيلة الثلاثة أشهر الماضية لشرائها، وأنك تحسبين الوقت بالعد العكسي في انتظار الساعة السادسة و أربع وعشرين دقيقة مساء لتسليمها لي..
لكني قدرت أنه حين تصلك رسالتي بفارق ثلاث دقائق قبل ذلك التوقيت سيكون كافيا لإنهاء ما كان لهذا اليوم من دلالة..فلن تحتفلي بعد اليوم بهذا التاريخ..وستجعلك رسالتي تنسين إلى الأبد رمزية ذلك المساء الذي كان جميلا، وكانت شمسه تميل إلى الغروب بتمهل لتمنحنا فرصة التقاط صورة تذكارية، ما زلت انت تحتفظين بها، أما أنا فقمت بإعادة تأهيل القرص الذي حفظتها عليه في نفس اليوم.
أعرف أنك لن تكوني قادرة على تصديق أن الرسالة التي لا تتجاوز كلماتها أربع مفرادات" أبلغك قراري إلغاء مشروعنا" ستكون الصوت المزعج الذي يوقظ من حلم كنت تستغرقين في تفاصيله..
ولن تستوعبي كيف استثكثرت عليك أن أصيغ الجملة الوقحة بأسلوب أكثر وضوحا أو أن أورد فيها فعلا للإلغاء، لا أن أجعله مفعولا لمصدر العنجهية المتعالية على مشاعرك...
ولأكون صادقا معك فإني أيضا لا أعرف لما اخترت هذه الصياغة، ربما لأن رسالة الهاتف لا تقبل أكثر من سبعين حرفا، أو أني لا أريد أن أطيل عليك في تفاهات لن تقنعك.
وتتسائلين في نفسك المعذبة كيف لم أشرح لك دوافع هذا القرار الطائش؟
والإجابة أن الأسباب التي اتخذتها جُنة من نظراتك الزائغة لم يكن بينها سبب واحد فيه من الوجاهة ما يكفي لإقناعك..فكان الأولى عدم إرهاق أعصابك بكلمات يابسة تتكسر عند أول قراءة، كهشيم كذب تذروه رياح المجادلة..
سيكون صادما لك أن تعرفي أنه في الوقت الذي كنت تنصتين بتمعن نادر لأنفاسي الحارة خلال الليالي التي استنفذت فيها عروض جميع شركات الاتصال، وتعتقدين أن حرارة النفس من حرارة الشوق إليك..أن تلك الأنفاس ليست سوى تنهيدات شفقة عليك..فأنا في ذلك الوقت أكون مشغولا بعمل آخر، كأن أكون منهمكا في محاولة يائسة لاختراق أحد المواقع، أوفك شفرة أحد البرامج، أو أتحدث عبر الأنترنت مع شخص آخر..
لم تكوني تتخيلين أن ذلك الصمت المهيب الذي يخيم علي حين يتقطع وكاء مشاعرك فتنفلت بين حناياك متدفقة، وبعد برهة تهمسين باسمي لاختبار مدى تفاعلي مع ما تقولين، وتظنين أن ذلك الصمت ليس سوى تأثر بصدق تعابيرك ، فيما هو في الحقيقة، سنة تنتابني كلما أوغلت أنت في عالم الجنون والحب..ولا أفيق منها عادة إلا حين تتسائلين .. أين أنت.؟ فأجيبك معك..والواقع أن كثيرا مما قلت لم أتمكن من سماعه بشكل لائق.
لن تكون معرفة أي من هذه التفاصيل مهمة الآن، فقد مضى كل ذلك، ولن يعود شريط الحياة إلى الوراء لتحذفي تلك اللحظات من حياتك..وليس أمامنا وقت لإصلاح خللها، وعليك البدء في حياة جديدة..وسأواصل أنا حياتي..
ما أعدك به الآن وسأفي به -على غير عادتي- هو أنك ستكونين آخر امرأة أكذب عيلها، لن استغل بعد اليوم لحظة ضعف لامرة مسكينة لأوقع بها في شباكي الغليظة..لن أتففن في برامج التصميم بعد الآن لأعد لوحة جذابة تكون مدخلا إلى قلب غر..وسأكون بالمرصاد لكل من رأيتها استهواها طعم صنارتي لاصيح بها ابتعدي..ابتعدي..فليس ذلك سوى طعم لصياد سادي يستخرج الأسماك من الماء حتى تفقد الحياة ثم يعيدها إليه، فلا أسرة له يطعمها وليس بحاجة إلى المال..
أدرك تماما أنه لا قيمة لهذا الوعد بالنسبة لك..لكنه بالنسبة لي حلم سأحققه، وسأعطل دواليب مشاعري الخشنة التي دهست في طريقها عشرات القلوب، دون أن تكلف نفسها عناء التوقف للتعرف على ملامح الضحية، أو أن تبلغ عنها شركة التأمين...
لن أنسى لك هذا الفضل أبدا.. فقد جعلتني فجأة أكتشف أني إنسان..لكني سأكون إنسانا لغيرك..وسأبدأ من اليوم البحث عن القلب الذي سأمنحه كل المشاعر المتراكمة منذ الضحية الأولى التي كنت أتسلل إلى دفاترها في المدرسة لأكتب عليها بخطي الجميل "أحبك.." فتضربها أمها في المساء بسبب ذلك، فيما أكون أنا على مقربة أستمتع بصراخها وهي تقسم بأغلظ الأيمان أنها لا تعرف من كتب العبارة التي لا تستوعب معناها...وحتى أنت أيتها الضحية الأخيرة..
ستكون المرأة القادمة في حياتي محظوظة جدا لأني أشبعت كل غروري، جربت كل الخلطات العاطفية، تعرفت على النساء في كل حالتهن، وتعرفت على نفسي أيضا.. لذلك لن يمس سعيدة الحظ القادمة أي لغوب..وربما في الذكرى العاشرة لارتكاب جريمتي هذه أقيم مأدبة في منزلي أدعو لها كل ضحاياي لأعتذر عن ما سببته لهن..واعترف أمامهن حينها أنك كنت السبب في عدم زيادتهن بمعذبة أخرى..ألا يشرفك ذلك..؟!