الجمعة، 22 فبراير 2013

جنائز الأحياء..


أحمد ولد إسلم
Ahmed3112@hotmail.com
في حينا الفقير الجميل الذي لم تصله الكهرباء بعد في الضاحية الشمالية لمدينة النعمة كانت مقبرتان تستقبلان الداخل إلى الحي، كنا تحت تأثير ما يحدثنا عنه الكبار من خطر الاقتراب ليلا من الأموات، نمضي بعيدا عما يمكن أن تصل إليه أيادي الراقدين في مقابرهم.. وكنا - ونحن أطفال  لا نملك حدائق عامة في مدينتنا- نختلس النظر من بعيد ونحن متشاغلون بلعبنا إلى حفاري القبور وهم يوارون عزيزا الثرى.
تولد من كل تلك المشاهد لدي خوف من الموت، بل من الموتى على الأصح، وهو الهاجس الذي ظل دائما يرافقني حتى خريف 2007 حين قدر لي أن أدفع ثمن غياب الدولة بدفن أخي بعد حادث سير على طريق نواذيبو صادف أن العاصمة الاقتصادية حينها ليست بها سيارة اسعاف.
بعد ذلك التاريخ بأعوام وتحديدا في ابريل 2011 كان صديقي حسام القطوس يوقظني قبيل الفجر لأحصل على سبق صحفي بتصوير جثث خمسة قتلى من الثوار الليبيين وصلوا مستشفى مدينة نالوت المحاصرة حينها من كتائب القذافي، كنت بملابس النوم تقريبا، وكانت ثلاث من الجثث غير واضحة المعالم، إحداها يستحيل تمييز إن كانت لإنسان أو لغيره، كنت أصور بشعور من المتعة، فأنا مراسل حرب وهذه المنطقة ليس فيها غيري، وأنا الوحيد الذي سيوصل صور هؤلاء إلى العاالم.
لم تسل لي دمعة وأنا أصور ثم بعد ذلك أسجل تقريري  وأرسله، لكن في اليوم الموالي وحين نظم أهالي نالوت الصامدة حينها مظاهرة لتشييع جنازة القتلى، كان شيخ تجاوز الثمانيين يتوكأ على كتف طفل حيناً، وحيناً يضمه إلى صدره، فهمت مما يقول له" يتموك يا وليدي.. جايينك يا قذافي جايينك.. راح نحرق قلبك مثل ما احرقت قلبي.. حتى ولو في قبرك" كان المشهد أقوى تأثيرا من صور الأشلاء، هنا فقط أدركت أن من صورتهم البارحة كانوا قتلى.. ولكنهم لم يكونوا أمواتا.. وهنا فقط بكيت.
كسرت تلك الصور التي التقطتها والتي أشفقت على المشاهدين من نصفها حاجز الخوف من الموت في ذهني.
بعد اندلاع الثورة السورية كانت مشاهد الموت اليومي صديقا وفيا يرافقني كل يوم يقاسمني كوب قهوتي الصباحية، كنت أشعر  بالتميز حين يكون عنوان النشرة الأول به مقطع صوتي لذوي القتلى.. قد يتحول الموت أحيانا إلى مصدر دخل للجالسين خلف شاشاتهم.
لم تعد دموعي تسيل أبدا لمشاهد الموت، ربما هي قسوة القلب كما يسميها فقهاء التربية، وربما التعود كما يرى علماء النفس.
بعد سنوات من مشاهد الموت هذه، وجدت دمعي يسيل حين كشف لي طفل في حي الرياض الجنوبي بالعاصمة نواكشوط  قمصيه الخلق  عن صدره وقد التهمته النار، فحول سواد قلب مستعبده سواد جلده إلى بياض، لأنه تلكأ في سقي غنم بضواحي المذرذرة..
اكتشفت مع تلك الصورة التي التقطتها نوعا جديدا من الموت، وحين تجولت في شوارع العاصمة خلال خمسة عشر يوما بعد ذلك كنت أشاهد الموتى في المكاتب الوزارية ومقرات الاحزاب السياسية، كانوا يستمتعون بنعيمهم المؤقت وهم يطلون من خلف طاولاتهم على مشاهد المشيعين لهم وهم يتكاثرون في الساحات المقابلة لمكاتبهم.
جنازة مهيبة لوزارة الوظيفة العمومية كان ينظمها الدكاترة العاطلون عن العمل  لم ينتبه لهم الوزير وهو داخل من الباب الخلفي إلى مكتبه، فالاموات لا يستطيعون مخاطبة الأحياء، لكنهم يسمعونهم سماع أهل القليب.
 كان مئات المرضى وذووهم على الأرصفة المحاذية للمستشفى المركزي يشيعون جنازة بصبر، كانت مرارة ألمهم من وفاة وزارة الصحة تنسيهم مرارة المرض الذي يعانون.
في شارع نواذيبو بحي بتفرغ زينه الراقي جدا كانت مئات السيارات الفارهة تسير كل ليلة لتشيع جنازة القيم ، فذوات السيارات الفاخرة يبحثن عن دفء فقدنه، هن ناقمات على المجتمع، يتسولن رصاصة شرف تطلق على قيمه، يضربنه في مقتل مقابل ليترات من المازوت أو عشاء في مطعم أو جلسة شاي وقليل من الكلام.
في الشوارع القريبة من مجمع المدارس كانت جنازة مهيبة للعلم تجوب الشوارع تردد دعوات الترحم على روح التاريخ المحلي.
وهناك في القرى النائية بالحوض الشرقي دخل السكان في حداد منذ عشرات السنين بعد انتقال الدولة إلى رحمة الله.
اليوم لم يعد مشهد الموت يخيفني يمكنني أن أشاهد عشر ساعات من كل الجثث المتناثرة، لكن ما يخيفني هو أن تستيقظ روح الانتقام في مسيرات تشييع الجنائز التي تجوب شوارع العاصمة، فتقرر أن موت الضمير وحده لا يشفي غليلها، وأن على هؤلاء  القابعين خلف مكاتبهم أن يموتوا عشر مرات، وأن يمثل بكل من له صلة بهم، .. وبمن سكت كل هذه السنوات على موتهم.
لن يستيطع أحد أن يقف في وجه تلك الروح المتمردة، كما لم يستطع أحد اقناع ذلك الشيخ اللييبي ان لا طاقة له للانتقام.
المكلوم المظلوم ليس لديه ما يخسره.. وقديما قالوا إن المعركة الخاسرة أن تواجه من ليس لديه ما يخسره.

السبت، 16 فبراير 2013

استيراد الخلاف..



أحمد ولد إسلم
" قبل أن أحدثك في ما تريد.. أريد أن أعرف مذهبك وقبيلتك" بهذه العبارة افتتح اللقاء أحد من التقيتهم من معتنقي المذهب الشيعي في موريتانيا خلال حديث جانبي معه.
 سيتبادر إلى الذهن سؤال عن جدية السؤال وسائله، وقد يثار استغراب من صيغته.. لكنه كان سؤالا محوريا وعلى ضوء إجابتي عليه تحددت معالم التعامل معي.
قبل سنوات كان السؤال المرادف لهذا السؤال هو الجزء الأخير منه، لكن التطور الفكري والتبادل الثقافي والانفتاح دون تنقيح كان رافدا لكثير من الأفكار الواردة خلال العقود الخمسة المنصرمة من عمر الدولة الوليدة، وهي الأفكار التي استوردت بصراعاتها ذات الطابع الديموجغرافي المختلف تماما عما عليه الحال في موريتانيا.
أثار سؤال ضيفي جملة أسئلة عن الخريطة السياسية في موريتانيا ومدى جدية الصراعات والتحالفات وأسسها؟
وبالقاء نظرة سريعة على لوحات الأحزاب السياسية المشكلة للمشهد المورتياني وجدتني التقيت من قدم لي نفسه على أنه ممثل حزب البعث العربي السوري في مورتيانيا وآخر قدم حزبه أنه ممثل الفكر الخميني وحزب آخر يقدم على أنه واجهة الاخوان المسلمين فضلا عن عضو الأممية الاشتراكية وربيب الحزب الشيوعي الصيني.. إلى آخر الخريطة التي نعرف جميعا محطات تشكلها.
لكن عمق الصراع السياسي وما شهدته لقاءاتي مع قادة بعض هذه الاحزاب جعلني أتساءل عن الحزب الموريتاني؟
ليس الاعتراض على استيراد الافكار فنحن توقفنا عن التصدير منذ قرون وما زلنا نستورد الإبرة وما تخيط .. وحتى بطاقات تعريفنا الوطنية.
لكن ما ذنب هذا الموريتاني المثقل بالارتفاع الشهري لأسعار المحروقات وغياب محطة للحافلات قرب الشارع الثالث شمال بيته، العاجز عن شراء دواء مزور، او حليب منتهي الصلاحية لأطفاله، ما ذنبه في صراع القوميين والاسلاميين في الشرق العربي؟
ما علاقته بإعدام جمال عبد الناصر لسيد قطب، ومساعدة حزب الله في ذبح الشعب السوري؟
أي ناقة له في الصراع حول البرنامج النووي الإيراني، وأي جمل له في مساعي دول الخليج للحفاظ على وحدتها المذهبية؟
لماذا يلقى به في أتون صراع سياسي يتقاتل ثيرانه في حلبة لا يصل إليها صراخ تشجيعه أو عويل ندبه؟
ما الذي سيستفيد عاطل عن العمل في نواكشوط حمل لافتتة كتب لها تسقط دولة المرشد في مصر؟
وما الذي سيصل إلى منتسب لآل البيت في موريتانيا من خمس ما يجمعه حزب الله لتقوبة ترسانته العسكرية؟
وهل حتما على القومي العربي أن يكره الاسلامي الموريتاني لأن  الهاشمي شارك في حكومة ما بعد صدام حسين؟
وهل يدفع بعثي موريتاني ثمن تجريم الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا؟
ما علاقتي أنا المواطن الموريتاني البسيط بسعي الولايات المتحدة الأمريكية لرفع قيمة العملة الصينية والقضاء على الطموح النووي في شبه الجزيرة الكورية؟
هل لأن ميشيل عفلق لم يكن مسلما، يتوجب علي كره المعتزين بأفكاره..
مهلا أيها السياسيون ..
الأرض تسعنا جميعا..
في الأرض متسع لشاب إسلامي يبكي لسقوط صاروخ على غزة.. وفيها مكان لهذا اليساري الرافض لهيمنة رأس المال المكتسب من عرق الكادحين.
في الارض موطئ قدم لهذا الشيعي الذي يلطم وجهه في عاشوراء بجانب هذا الشاب الذي يستمع إلى أغنية غاضبة لفيفتي سنت.
لو استمر هذا الاستيراد الزائد على حاجة السوق المحلية ستتضخم عملة الصراع..
يكفينا ما كنا فيه من تقسيم بين عرب وزوايا ومعلمين وحراطين وإقاون..
كان مبررا معرفيا في حقبته لحاجة الأمة إلى من تنسد إليه ما يتقنه.. وبالكاد نحاول تجاوزه.
لكن أن يتصارع الشيوعي والاسلامي والقومي والشيعي والسلفي والمتصوف والمتغرب، ليس لاختلاف بينهم في رؤية الأصلح لمورتيانيا بل لأن نظراءهم في بلدان أخرى يتصارعون فتلك طامة قاضية.
مد يك صافحني .. اجلس معي تناول كأس الشاي المنعنع أدر مذياعك على ولد أحمد زيدان وهو يعزف أشبار لقنيدية.. حدثني عن جرائم نوفل وبطولات ناصر الدين، وجهاد ماء العينين، ورسائل ولد التلاميد وقصائد ولد الطلبة، وحفظ لمجيدري.. وحلة الأربعين.. حدثني محمود مسومة العاشق وعن ولد امسيكة المقاوم، وعن ولد عبدوكه .. عن المزوزة.. عن هنون عن شربب وتنبنبه عن تنيكي عن أبيرات الشوك.. عن أي شيء حدث هنا على هذا الأرض .. اكرمني أو امقتني لكن ليكن بسبب هذه الارض.. استورد أفكارك من هناك من الصين ومن العراق ومن محلات الوجبات السريعة في صحراء نيفادا.. لكن لا تسورد معها صراع أهلها..
أجلس بقربي .. قل لي ما تراه مناسبا لحكم هذه الأرض بناء على تجارب الآخرين في الحكم.. لكن لا تنس أن نصف أهل هذه الأرض لا يعرفون شيئا عن الصراع القائم في الأماكن التي استوردت منها أفكارك.. ولا يهمهم ان كان المصريون نصبوا مرسي أو السوريون اسقطوا الأسد.. او أن منشأة برشين بها ما يكفي من الماء الثقيل واليروانيوم المخصب بنسبة 20 في المائة، فنصفهم ما زال يشرب من بئره التي فطرها جده.
اجلس عزيزي.. فالأرض تسعنا جميعا.