السبت، 16 مايو 2015

الصراع على الصورة

أحمد ولد إسلم
Ahmed3112@hotmail.com

في تسعينات القرن الماضي حين كانت التلفزة الموريتانية هي الوحيدة المهتمة بما يدور في البلد، كان الوعي بالصورة في شكلها المختزل يتشكل في أذهان الشعب حديث العهد بالبداوة، وكان من يظهر في التلفزيون أو تجرى معه مقابلة فيها أو في إحدى الجرائد الرسمية يكون ذا حظوة أو سلطة أو دافعا كثيرا من المال.
وقد حدثني أحد صحفيي التلفزة الموريتانية عام 2005 في أواخر أيام الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، أن أحد زملائه ممن كانوا يرافقون الرئيس في زياراته الداخلية أنهم كانوا يتقاضون أموالا معتبرة من كل من ظهر وجهه بوضوح في لقطة مقربة أثناء عرض تقرير الزيارة، بل كان الاتفاق على قرب اللقطة وطولها وتكرارها، يتم قبل التصوير، ويحدد على أساسه المقابل المادي أو المعنوي.
لكن الوعي بـأهمية الصورة تطور لاحقا، وبات استخدامها، مدروسا وممهنجا، ومع الجيل الجديد من هواة الإعلام ومواقع الانترنت والشبكات الاجتماعية لم يعد أحد يدفع مقابل الصورة إلا نادرا، بل صار أكثر الناس يتوارى عند التصوير مخافة ظهوره في لقطة، قد تكون دليل إدانة له لاحقا إذا حدث أن غير موقفه من القضية أو النظام الذي التقطت له صورة يدافع عنه.
وبالمقابل صار هناك استخدام للصور الرقمية، لتعزيز أو تفنيد الصورة النمطية، التي هي في تعريفها المبسط "انطباع تلقائي يسقط صفات عامة على شخص أو قيمة أو شيء خاص، بحيث يترافق فيه الدال والمدول في لاوعي المتلقي".
لذلك نجد مثلا استخدام صور الرئيس وهو يصافح ضعفاء الناس، تتحول من لحظة إنسانية عابرة وجد فيها قوي نفسه قرب ضعيف، إلى صورة تشحن بالمدلول السياسي، وتعطى قيمة أخلاقية تستخدم لاحقا لغرض تسويق موقف، وترسيخ صورة ذهنية عامة لدى المتلقين، باستخدام لحظة لم تستغرق ثوان.
والحال ذاته مع صور التقطت رفقة علماء بارزين أو شخصيات ذات مكانة اجتماعية.
لذلك يحتدم الصراع عادة بين القوى المتنافرة سواء سياسيا أو اجتماعيا في تعزيز الصورة الذهنية عن نفسها من جهة وعن خصمها من جهة أخرى، من خلال الاستخدام الممنهج للصور النمطية واستحضارها سواء بالتذكير بها خطابا أو عرض ما يدل عليها نصا أو صورة.
وفي هذا البلد هناك صراع حقيقي لا تخطئه العين بين جمع من الأطراف السياسية والاجتماعية التي يحاول كل منها الظفر بأكبر عدد من المقتنعين بصوره.
ولا تكون مجازفة علمية إن قيل إن الحضور السياسي لأي مكون سواء من النظام أو المعارضة، وحتى المكونات غير السياسية هو ترجمة في الواقع لحجم المقتنعين بالصورة الذهنية التي يحاول قادة كل طرف ترسيخها في أذهان العامة باستخدام وسائل الإعلام سواء ما قبل التقليدية منها كالحديث الشفوي والشائعات أو التقليدية كالتلفزيون أوالإذاعة والصحف والانترنت، أوالحديثة منها كوسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف المتحركة.
ولكن الصورة الذهنية تتضرر بسرعة عند الاخلال بأي من الأسس التي شكلت عليها، فقد يخسر حزب سياسي مكانته في قلوب الناس حين يغير موقفه من القضية الجوهرية التي كانت محور جذبهم، وقد لا تحظى حكومة برضى الناس، حين يتبين أن إجراءاتها بعد العمل منافية لما استقطبت به عقول الناس ونواب البرلمان في برنامجها الحكومي.
ولعل من أكثر الصور الذهنية التي ترسخت لدى عامة الناس في موريتانيا، بفعل التكرار، حتى باتت في مقام العرف، أن الوزير الأول سيكون واحدا من أهل الشرق، وهو عرف بات ضره أكثر من نفعه.
ولكن الأكثر منه ضررا، هو العرف الذي يبدو أن النظام المورتياني يحاول تجذيره، بترسيم المحاصصة العرقية في المؤسسات السيادية، كأن يكون رئيس مجلس النواب من فئة لحراطين ورئيس مجلس الشيوخ من فئة الزنوج، وعدد معين أعضاء الحكومة من ولاية معينة.
وهي المحاصصة التي وإن كان النظام يحاول تسويقها ذهنيا على أنها نوع من الانصاف، إلا أن ترسيخها قد يكون مضرا جدا في المستقبل، فالأنظمة الجمهورية لا يمكن أن تكون قائمة على محاصصة غير منصوص عليها في الدستور، لأن الاخلال بها بعد سنوات من ترسيخها سيعد اعتداء على صورة ذهنية ترسخت في عقول الناس.
ويمكن للمتابع العادي أن يعرف أن الصورة الذهنية التي يريد الرئيس الموريتاني في عهدته المقبلة اللعب على ورقتها دعمه للشباب، (جمع التبرعات للرياضة، لقاءات الشعب، ولقاء الشباب المنتظر)
ولا تستبعدوا أن تكون صورة الرئيس الأكثر تتداولا في الحملة المقبلة صورة له مع نخبة من الشباب الثلاثيني، فقد خسر الرئيس الصورة الذهنية التي حاول ترسيخها في حملته الأولى بوصفه رئيسا للفقراء، تماما كما خسرت المعارضة الموريتانية، صورتها الذهنية التي حاولت جاهدة أن ترسخها في أذهان الناس بوصفها القوة المنقذة والقادرة على إسقاط النظام..
لكن الصورة الذهنية التي ما زالت محافظة على الاستقرار في أذهان الناس منذ نهاية السبعينيات هي أن تدخل الجيش هو الحل الوحيد لإنهاء أي حكم عجز عن حل أزماته، وتلك الصورة هي أكثر الصور الذهنية قبحا وأحوجها إلى التغيير..
"إلى مكنت قال الزحاف”.
 


نقلا عن صحيفة الأخبار أنفو

الأحد، 10 مايو 2015

الآلة لا تبتسم..



أحمد ولد إسَلْمُ 


لأني مغترب تفصلني أربع ساعات عن التطورات السياسية في بلدي كثيرا ما أطيل السهر، وكثيرا ما تكون بداية عملي في وقت مبكر جدا، ولأن "جيمات الشاي الثلاثة*" لا تتوفر في هذا الوقت عادة، أجدني مضطرا لتناول بعض المنبهات التي تساعد على التركيز في استقبال يوم حافل بالمتناقضات..
اقتحمت حياتي عادة جديدة تتمثل في تناول قهوة متوازنة بين البن والحليب والسكر، أميل إلى جعلها متوازنة لربطها نفسيا بتوازن الشاي والنعناع والسكر في كأسي الصباحية المفترضة..
بعد ربع ساعة من اطلاعي على مستجدات اليوم ومتغيرات الأمس أتوجه عادة إلى غرفة يسار المدخل الرئيس للطابق الرابع من بناية تجمع أكبر عدد من ثقافات العالم ومكتوب على مدخلها " نرى الأمل حيثما كان" .. عبارة كتبت بعناية وخط واضح، يعتقد كل من يراها أنها موجهة إليه.
في تلك الغرفة مشروع مطبخ؛ به ثلاجة وكثير من الأكواب ومسخن كهربائي وقبل مدة أضيفت إلى تلك المعدات آلة لإعداد القهوة.
ويدخله بين الحين والآخر ياسين..
ياسين هذا رجل خمسيني، وفد مثل الملايين من أهل بلده إلى الامارات، - مثلي تماما يبحث عن كسرة خبر بكرامة - يملأ فراغ يومه الطويل بإعداد القهوة والشاي للعاملين في الطابق الرابع من تلك البناية، يتقن الرجل عمله بامتياز، يدندن بصوت خافت أغنية تميل إلى الحزن كما يبدو من شجنه، وإن كنت لا أفهم كلماتها، وتلازمه دائما ابتسامة.
ابتسامته تلك هي التي جعلتني أحبه، فهي تجعلني أفهم معنى الجملة المكتوبة على المدخل، وتذكرني بابتسامة شِغالي..
شغالي شاب حملته الأقدار من سهول شمامة إلى وكالة الأخبار المستقلة في نواكشوط، لا يزيد طوله ولا وزنه منذ عرفته قبل أربعة أعوام، يقرر الزواج قبل كل إجازة سنوية، لكنه لا يفعل، ربما فعلها في العطلة الماضية.. لا أعرف.
شغالي مثل ياسين يشعرانك أنك تقدم لهما خدمة حين تطلب من أحدهما شايا، أو قهوة بالنسبة للأخير.
كنت أحرف بيت جرير حين أخاطب شغالي ممازحا فأقول:
فصب الكأس إنك من نمير.. فلا أكلا جلبت ولا شرابا.
يضحك دائما حين أقول ذلك، وحين يجلب الكأس يقول .. إشرب كأسا إنك من نمير.. لا يدرك شغالي طبعا رمزية نمير في التراث العربي، وربما لا يأسف على ذلك.
ياسين جاد قليلا، أو يحول جاحز اللغة دون إظهار جانبه الضاحك من شخصيته، لكنه يبتسم وهو يقدم لك القهوة، يدور في غرفة أخبار مترعة بهموم اثنين وعشرين بلدا عربيا، يحفظ موضع كل كأس وصاحبها، وحتى ذوق قهوته أو شايه، يكفي أن تطلب منه ما تريد.
حين وضعت آلة إعداد القهوة في غرفة مشروع المطبخ ووزعت مثيلاتها في أركان البناية ومداخلها، بات كثير منا يراها أكثر تنوعا وعملية، لا يحتاج الأمر سوى وضع كأس ورقية تستعمل مرة واحدة، والاختيار بين الأزرار التي تشتت ذائقتك بين ثقافات العالم من القهوة الأمريكية إلى الكابوتشينو الإيطالية وحتى الشاي بالليمون الذي يوصي به الجزائريون المصابين بالزكام الشتوي.
لا يتسغرق الأمر أكثر من دقيقة وتأخذ الكأس التي تحتاجها، وحين ترتشف آخر قطرة فيها، ترميها في أول علبة على يسارك،..فهي لا تحمل اسمك وبلا ذاكرة.
على العكس من ياسين قد تضطر لانتظار عشر دقائق قبل أن تأتيك قهوتك، فهو مثل شغالي يحرص على تنظيف أكوابه جيدا، ويعطي للسكر فرصة للذوبان بهدوء كأنه يتنصت على حديثه إلى تلك القهوة القادمة من مزارع البن في إفريقيا الوسطى والمعلبة من شركة سويسرية.
في البناية المقابلة توجد آلة تزويد الهاتف بالرصيد، للأسف لا يوجد باعة رصيد في شوارع هذا البلد، لم أجرب هذه الآلة سوى مرات قليلة، ولم أشعر بتواصل معها، فصاحب البقالة الباكستاني الذي يحتل ركن بناية منزلي يخاطبني بعفوية دائما، بل مرات يقترح إدخال البطاقة نيابة عني حين يراني مشغولا، وكذلك بائعات المراكز التجارية، يعطينك ما تريد بابتسامة تدعوك ضمنيا إلى العودة مرة أخرى.
لو قررت الحكومة مثلا أو شركات الاتصال في موريتانيا توزيع تلك الآلات في شوارع العاصمة، سيكون ذلك ابتكارا رائعا يقلل زحمة السير في نقطة ساخنة، وحوادث المرور في طريق لكبيد- الداية 11.. هذا مسلم به.
لكن بعد فترة ستصيب الكآبة كثيرا منا، فنحن نستمد جزء من سعادتنا من ابتسامات أولئك البسطاء الذين يشعرونك أنك في نعمة لا تنتبه إليها، وهم ربما أحسن منك حالا..
فياسين مثلا يقول إن غناءه الشجي يساعده في خفض التوتر.. شغالي لا يحبذ ربط شايه بأوضاع نفسية..
الأهم من كل ذلك أن البعد الانساني في طريقة إعداد وتقديم القهوة أو الشاي لن تجده عند آلة وزعتها شركتها مجانا لتفرض عليك رؤيتها الثقافية وتجبرك على تكييف ذوقك معها، وتدرج اسمها في قائمة مشترياتك نهاية الأسبوع..
فضلا عن كل ذلك شغالي وياسين يبتسمان.
===

* في التراث الموريتاني أن الشاي لا يستقيم إلا باجتماع ثلاثة جيمات (الجمر والجماعة والجر) الجر يعني التمهل


المقال كتب منذ ثلاث سنوات وأعادت إحدى الصحف نشره فأحببت مشاركته معكم