الاثنين، 29 يونيو 2009

هل أشرح لك..؟! (قصة قصيرة)


أحمد ولد إسلم*
كانت الشمس الموسكوفية متلفعة بغيم داكن،والبروق تخطف الأبصار، وقصف الرعود يجبر أجهزة إنذار السيارات المركونة بعناية فائقة في جادة فرونزنسكايا على الخروج عن صمتها، والكل يترقب القطرات الأولى ليفتح مطريته، لا وقت عند أحد للتوقف..والمحظوط من دخل النفق المخصص للراجلين قبل نزول المطر..
من الدرج المؤدي إلى النفق تدفقنا أفواجا..لا أعرف لمَ اعترضتني دون غيري..كنت أنظر هاتفي فهناك من ينتظرني، وعلي الوصول بعد ربع ساعة..
بصوت هادئ قالت: من فضلك خذ واحدة.
تجاوزتها معتبرا أنها تحدث غيري، أو أن العرض عام، لكنها تقدمت بخطوة نحوي، وهي تعترض جزئيا طريقي وأعادت بهدوء جملتها، وعيناها الغائرتان المشدودتان من طرفيهما تركزان علي.
مستعجلا ومتملصا قلت لها :ليس الآن.
وقفت بحزم أمامي وقالت أنت ذاهب إلى موعد، لا بد أن تختار واحدة:
"هذه يمكن أن تهديها لحبيبتك إن كان هذا أول لقاء لكما، فهي مختلطة فيها ورود حمراء ومع ذلك فيها بنفسج محفوف بالياسمين ستكون معبرة عن صدق مشاعرك.
وهذه باقة حمراء خاصلة ستثير حبيبتك، وتفيد في تجديد العهد بينكما، خاصة إن كنت لاحظت فتورا عاطفيا في أيامكما الأخيرة.
ولك أن تختار أي واحدة من الباقات الأخرى، فهي جيدة في ذكرى عيد ميلاد إحدى صديقاتك مثلا، لأنها متوازنة لا تعبر عن الحب في بعده الثنائي، بقدر من تعبر عن التقدير والوفاء..
أسعارها مناسبة، أغلاها بمائتي روبل، وأؤكد لك أني اقتطفتها جميعها صباح اليوم من حديقة بيتي التي اعتنبي بها بنفسي..أنظر ما تزال يدي ترشح، فقد انغرزت شوكة في إبهامي وأنا أقطفها قبل ساعة من الآن..يمكن أن تتنسم شذاها ستتأكد أنها جديدة ..ما زالت تفوح.."
كان علي البحث عن وسيلة أفهمها بها أنها ضيعت ثلاث دقائق من وقتي، وأن كل الخيارات التي قدمت، ليست ضمن مفكرتي، فأنا لا حبيبة لي إطلاقا، ولا تربطني علاقة صداقة مع أحد في هذه المدينة.
وأعياد الميلاد ليست من ثقافتي، وكل من أعرفهم ولدوا حسب الوثائق في يوم واحد، لا يمكن الاحتفال به لتوافقه مع عيدي مسيحي، فلا يجازف أحد بتخليده، كما أن ذلك التاريخ الموجود في وثائقهم لا يعني لهم شيئا، لأنهم ولدوا في يوم آخر.
وأكثر من ذلك، أني لا أستطيع الوقوف على حقيقة ما قالت، فلا فرق عندي بين ما في سلتها من باقات.
فبحكم النشأة لم أعتد تبادل الورود في المناسبات العامة، وكل ما أعرفه منها نوارٌ أصفر يكسو الطلح، ويخصص غذاء لصغار الخراف.
والأشجار عندنا -عكس العالم كله- تينع في موسم الخريف، رغم أني درست في مراحلي الأولى أن الخريف موسم لتساقط أوراق الشجر، وظل ذلك يشكل عقدة بالنسبة لي، حتى أدركت متأخرا أن النص الذي درسنيه معلمي أخذ من كتاب التلاوة العربية دون مراعاة فارق خطوط العرض.
لا أعرف إن كانت العجوز - التي تكبر جدتي قطعا- قالت كل ذلك، أم أني توهمته من حركات يديها المرتعشتين، فأنا لا أفهم الروسية حين يتحدثها الموسكوفيون بطلاقة، فكيف ولكنتها الطاجيكية حولت حديثها إلى شريط يسمع مقلوبا.
خلال شرحها المستفيض كنت أتأمل ملامحها، فقد أخذتي بعيدا إلى ربوع نشأتي الأولى، فسود الأيام حفرت في وجهها أخاديد ذكرتني بــحال قيعان أعرفها في هذا الفصل بالذات من السنة حين تكون شقوقها فاغرة، تنتظر بلهفة أول الغيث.
وعلى رأسها لفت منديلا أبيض، جمعت به شتات ما أبقت لها الأيام من شعرها المستسلم لقدر لونه الأخير، وكذلك من هن في مثل عمرها من عجائز بلدي - على قلتهن – ما زلن محافظات على تلك الخرقة السوداء التي تستر الشعر حال سقوط الملحفة عنه، وكثيرا ما كانت موضوعا لأعذب أشعار الغزل حيث تسمى "الملوى".
رفعت العجوز وجهها المكفهر إلي وأنا مستغرق في تأملاتي بعيدا عن رطانتها، فأدركت بمرارة أنها ضيعت جهدا دون طائل.
قلت بصعوبة كلمة سمعتهم يقولونها في الوداع ومعناها "أراك قريبا"، وتركتها وهي تحاول صعود السلم بحثا عمن يستوعب معاني ما تحمل ، أو يدرك دلالات ما تقول.
مسرعا بخطواتي لتعويض وقتي الضائع، انتصب في طريقي عند فتحة النفق المؤدية إلى محطة القطار السريع، رجل أربعيني.. أجبرتني قامته الفارعة وبذلته الأنيقة جدا على التوقف.
كان يسند كمانا إلى قلبه، وتنساب بين أنامله نغمات باكية تختزل حزنا باذخا، وكانت عيناه الزرقاوان مغرورقتين، تجول فيهما دمعة بلورية شفافة انحدرت على خده بتفاعل غريب راسمة خطا مستقيما استقامة قامته…
الفت خلفي لأسأل العجوز إن كان في سلتها ما يعبر عن التعاطف مع المحزون، لكنها اختفت بين مئات المسرعين للاحتماء بالنفق من وابل بدا أكثر فهما منا جميعا..
· كاتب موريتاني مقيم في روسيا

ليست هناك تعليقات: