الجمعة، 22 مارس 2013

عندما كنت حدادا..



أحمد ولد إسلم

Ahmed3112@hotmail.com

في أجيال ما قبل الكهرباء كنا نربى على نمط من الشهامة يقضى أن لا تسمح لامرأة أن تقوم بعمل شاق في حضورك، كان من المعيب مثلا ان ترى امرأة وهي تمتاح من بئر، أو تحمل ثقيلا مجهدا حمله، إن كان في محيط نظرها رجل، .. - ورجل هنا تعني ذكرا مهما كان عمره-

دفعتني تلك التربية مرة وأنا مغادر المدرسة رقم ثلاثة في النعمة أن أتوجه إلى سيدة واقفة خلف مبنى إدارة البيطرة وقد أجهدها التعب وهي تحمل حقيبة ثقيلا وزنها، اقترحت عليها المساعدة في حملها، فتركتها لي، وحملتها من مبنى البيطرة وحتى حي " أهل لخويمة" - المسافة ربما قرابة كيلومترين تقريبا-

حين وصلت بيتها حلت عقدة في طرف ملحفتها، وأخرجت قطعة نقدية بقيمة عشر أواق، كانت عشر أواق في ذلك الوقت كافية لإفطار طفل مثلي يمكن أن أشتري بها خبزة ساخنة، أو اقسمها بين اللقيمات ( بني) وزجاجة من مشروب (بيصام) .. لكني استنكفت عن أخذها، فالدافع لم يكن ماليا، وإنما رغبة مني في الاحساس بالمروءة، إذ كان يقال لنا إن ترك سيدة تقوم بعمل شاق يجرح الشهادة.

أبدت المرأة تعجبها، وقالت لسيدة استقبلتها عند الباب: "أهاه هذا آخر الزمان إشاشرت لمعلمين ما تلاو يقبظوا الفظة".. أحسست بمرارة عميقة فأنا - وإن كنت أسمر غامقا لون بشرتي، ولا تدل هيئتي على بسطة في الرزق- ، فإنه لم يسبق لي أن وصمت بما كنت أراه حينها منقصة.

"معيار الدنيا.."

يشاء الله أني أصدم بعد عامين بالضبط من هذه الحادثة بأحد أصدقاء أبي يخبرني أن أبي في طريقه إلى النعمة وأنه سيصير "معلم".. كتمت الخبر عن كل من أعرف بمضاضة، وانتظرت استجلاء الأمر بوصوله قادما من العاصمة.

كان أن جئته في محله الجديد على ناصية بطحاء النعمة لأجد ورشة للحدادة والنجارة، ولافتة مكتوب عليها " منجرة الخير للحديد والخشب".. وكان أبي جالسا على كرسي يتابع العمال السينغاليين المنهمكين في عملهم.

غمرتني الفرحة، والتفت إلى صديق أبي الذي أخبرني الخبر المفجع وقلت له إن أبي فقط يملك منجرة، ولكنه ليس معلم.

كانت تلك المنجرة أول من أدخل الصنعة الحديثة في الحدادة والنجارة إلى ولاية الحوض الشرقي، وظلت كذلك حتى عهد قريب حين عم الكساد الاقتصادي تلك المنطقة المهملة من موريتانيا.

أوقات الفراغ قليلة حينها لطفل مثلي يجمع بين المدرسة والمحظرة، إلا أني كنت متحمسا جدا لمعرفة طريقة عمل هؤلاء السينغاليين القادمين إلى أقصى مدينة شرق البلاد، وكان أبي حريصا على إشباع ذلك النهم الفضولي لدي، ومما كان يردده على مسامعي دائما أن العامل إذا أحس أنك تتقن ما يقوم به، يكسبك ذلك أمرين، أولها أنه سيقوم بعمله على أكمل وجه، والثاني أنه لن يهددك في وقت حرج بترك العمل، لأنه يعرف أن ذلك لن يشكل عليك ضغطا.

كان الوالد أيضا يشعجني على تعلم صنعة هؤلاء السينغاليين ولغتهم، بالقول إن المهنة لا تتناقض مع المكانة الاجتماعية، ويضرب لي مثالا بنائب في إحدى الدول الأوروبية كان نجارا، وحين انتهت مأموريته عاد إلى منجرته، وحين سألته الصحافة قال لهم إنه قادم إلى البرلمان من هذه المنجرة.

خلال أيام العطل كنت حريصا على التعلم، وجشعني في ذلك أن الوالد كان يقول لي إن كل ما أحصله من "عرق جبيني" فهو لي.. كنت أنتهز الفرصة يوم الجمعة حيث يكون العمال في إجازة فأقوم بالأعمال الخفيفة والمستعجلة كلحامة كسور قطع الغيار، وإصلاح الأدوات المكسورة، فضلا عن كل ذلك اكتشفت ذائقتي في الألوان فكنت أصمم صناديق هدايا وأنحت ورودا من الخشب احتفظ بها لأهديها إلى من أحب.. وطبعا لم أهدها إليها فقد كنا بدوا لا نجد رمزية للورود العبقة فكيف بالخشبية.

"لا خير في الحداد"

مرت سنوات كثيرة بعد ذلك كنت أنتحل فيها شخصية الحداد أو النجار وقت الحاجة، ثم أتقمص شخصية المشرف لاحقا.

خلال تلك السنوات كان عدد من زملائي في الدراسة من شريحة لمعلمين، بعضهم فائق الذكاء، والبعض الآخر فنان في الخط، التقيت بعد سنوات من القطيعة بعضهم ممن منعتهم ظروف الحياة من مواصلة الدراسة، وقد صار حلاقا، أو مصلح أجهزة ألكترونية.

الفئة الأخيرة كانت تثير لدي الكثير من الأسئلة، فكيف يستيطع شاب تعرف إلى الكهرباء منتصف التسعينيات ولم يدخل في حياته معهدا تقنيا، أن يفكك أجهزة بالغة التعقيد، ويعيد تركيبها.

الإحباط من نظرة المجتمع أحد دوافع بعض أولئك الشباب إلى ترك الدراسة، فهم تربوا كما تربت كل الأجيال السابقة على أن لا خير في الحداد ولو كان عالما..

تلك العبارة المقيتة التي كنا نرددها ونحن أطفال على مسامع أقراننا من لمعلميين تعلمناها من الكبار، وهم الكبار أنفسهم الذين ربونا على الشهامة ورفعة النفس.

تحتفظ ذاكرتي بكثير من قصص الازدراء لشريحة الأذكياء الموهوبين هذه، مهما كان لديهم من العلم والعبادة.

تماما كما تحتفظ بإبداعات أصدقاء منهم، ما زالوا يحافظون على تراث أمة لم يوجد من تراث في بدوها ولا حضرها إلا ما مرت عليه يد أحد لمعلمين.

اليوم تتململ تلك الشريحة من واقع الظلم الاجتماعي القائم منذ مئات السنين، وتتفاوت ردود الفعل من كل شرائح المجتمع الأخرى، فجميعها تشربت تلك الأفكار في عقليتها الجمعية، ونظرتها للحياة.

فلا الأحزاب السياسية تبنت القضية، ولا علماء البلد أو مفكروه أعاروها قليلا من وقتهم، لكن غدا حين يبلغ السخط ذروته سيتهم الجميع لمعلمين كما يتهم غيرهم بإثارة الفتنة..

والواقع أن الظلم الاجتماعي أسوأ بكثير من الظلم السياسي، فالأخير يزول بزوال نظام يرعاه، أما الأول فيحتاج تغيير عقلية مجتمع بأكمله، وتلك مهمة لم تكن ذات يوم سهلة.





ليست هناك تعليقات: