أحمد ولد إسلم
"
كيف أنت والغربة...؟"
كانت تلك فاتحة رسالة وصلتني من صديق قديم، ما زال يعض بنواجذ الأمل على
أهداب حلمه، يتاجر في الهواتف المزورة، ويعلق في بيته شهادة ماجستير، ووسام
المرتبة الأولى من جامعته الأجنبية ، يحتفل هذه الأيام بمرور ثمان خيبات بعمر
شهادته، وينتظر مصيره.
كيف أنا والغربة يا صديقي..؟!
سأسرد عليك قليلا، فقد تنقطع
الانترنت قبل تحميل الرسالة إن كانت طويلة.
قبل شهرين التقيت صدفة زميلا سابقا أيام الدراسة في الجزائر، كنا معا ننتظر
طائرتين متأخرتين في مطار الدار البيضاء المغربية، جمعنا انعدام مطار ذي سمعة في
بلدنا، وفرقتنا أرقام الرحلات، كان هو متوجها إلى الغابون، وكنت ميمما الدوحة.
سألته وما يفعل مهندس صيانة طرق في الغابون، هل وجدت عقدا مع شركة هناك؟
ابتسم زميلي وقال: كنت أتاجر في السيارات المستعملة خلال السنوات السبع
الماضية، ولم أخرج شهادتي من حقيبتها، حتى إني لم آخذها معي إلى الغابون"
هززت رأسي بألم وتوجه كل منا إلى بوابه عبوره نحو وطن آخر.. نعم نحو وطن..
ألم يقولوا: " إن الوطن هو حيث يشعر المرء أنه بخير؟!
أنا يا صديقي أكملت قبل ستة أشهر عامي الثاني عشر خارج الوطن، ولكني لست
مغتربا..
فأينما وليت وجهي وجدت من سبقني إلى هناك، من جبال الأوراس، وحتى جبال
الأورال، كان دائما هناك موريتاني ينتظر في المطار أو في الفندق، يحتضنني بلهفة من
يلتقي أخاه، ففي وصولي إليه طمأنة له بصواب قراره، وإراحة لضميره أنه ليس وحده من
لفظه الوطن إلى وطن آخر.
أنا غريب هناك، فقد بدلت الأرض غيرها، وما بقي من المرابع حتى رسمها، أنا
الذي لم أجد في "النعمة" - تلك المدينة التي حفرت شظايا شوارعها خرائط
في قدمي- من أسلم عليه..
أنا الذي أمضيت ثمانية عشر يوما في قريتي لم أخرج من بيتي، فليس في القرية
إلا الأطفال أو الشيوخ.. أمام الشباب فانتشروا في مناكب الأرض.
لست مغتربا هنا.. أكتب إليك وأنا أستمع إلى " نقد نغني يغير
أمابي".. بصوت ديمي عليها رحمات الله، وقد شربت قبل قليل شايا معنعا، وأنا ألبس دراعة،
لا بل أتكلم الحسانية في غرفة أخبار عالمية ولا أحتاج مترجما لكثير منها، فقد وجدت
الثقافة الموريتانية موطأ قدم هنا.
يجلس خلفي رجل قطري لم يزر موريتانيا يوما ولكنه يعرف "
وصف أحمد سالم قال حد
عنو شافو بخلافو
وصف أحمد سالم ما يقد
حد يقول أنو شافو"..
ومجموعة منوعة من القفان أغلبها من
"لبير".
في مطار شيريميتييفو بموسكو حدثي أحد من تصفهم بالمغتربين أنه مر به
عابرا قبل سنوات، ووجد في زاوية معزولة منه موزعا كهربائيا كُتب عليه" خاص
بأتاي الموريتانيين".. الغريب أن ذلك الصديق لفظه الوطن أيضا، وباتت موسكو
الآن وطنه، وصار أحد وجوه الشاشة الروسية.
أنت الغريب هناك يا صديقي..
أنت في وطن لم يخلق للبشر مثلنا، هناك لا يحق لك أن تمرض، يجب عليك أن لا
تتنقل، حرام عليك أن تتزوج، جريمة أن تنجب أطفالا.
تحتاج وساطة لاستخراج بطاقة تعريف، مع أن لا أحد يشك في مواطنتك.
أنت أحسن مني حالا فقط لأنك ترى أمك كل صباح، ما سوى ذلك كلانا مغترب في
وطنه.
صديقي.. جرب أن تسافر مرة أخرى، اختر أي وجهة من هذا العالم، حتى في سلطنة
بروناي هناك موريتانيون، حين تقوم بجولة قصيرة في أي شارع من هذا العالم ستجد أن
موريتانيا مر من هناك.
أحيانا قد تتساءل من بقي في البلد؟
إذا كان الدكاترة والأطباء، والمهندسون والصحافيون والرعاة، وأئمة المساجد،
والطلاب، وباعة الأغنام، و حتى بائعو الرصيد في الشارع هاجروا، فمن بقي في البلد؟
لست متشائما يا صديقي، ولكني خائف، خائف أن أعود مساء يوم ما فلا أجدك ولا
من أشرب معه شايا على تلك الربوة الواقعة غرب بيتنا.
قبل أعوام سئم الرُّحّل انتجاع الكلأ فألقوا عصيهم في أقرب قرية، أو فطروا
بئرا في فلاة وقطنوا.
زاحموا القرويين في مواردهم الضئيلة، فتركوها لهم وتمدنوا، ثم ضاق أهل
المدن ذعرا بالقرويين فتكدسوا في العاصمة، حتى لم يعد فيها متسع..
ومن كان من السابقين إلى العاصمة وجمع مالا من أي مصدر أمن لنفسه مقاما هنيئا
في الخارج، ولم يبق فيها ممن لا مفر لهم منها إلا الفقراء، والعسكريون والساسة
الفاسدون، أو مشاريع فاسدين لديهم " استعداد للانحراف" في انتظار الفرصة،
وهم يمتصون أفاويق ما تبقى من ثروة.. وجميعهم يبحثون عن جواز سفر.
قل لي بربك كم سنة سيصمد البلد..؟
بل قل لي فقط كم جارا بقي ممن
عرفتهم خلال سنواتك الثماني في العاصمة لم يهاجر أو يهاجر أحد أفراد بيته؟
طمئني إذا يا صديقي كيف أنت والغربة؟!
هناك 3 تعليقات:
يا أخي تكتب بشكل آسر ، جملك مشذبة وتصيب كبد المعنى ، ولكن طمئني إذا يا صديقي كيف أنت والغربة؟!
كل الشكر لك عزيزي أمينوه.. سعدت بمرووك من هناك..
إرسال تعليق