السبت، 28 مارس 2015

المشموم..(قصة قصيرة)

أحمد ولد إسلم
Ahmed3112@hotmail.com


في هذا الوقت من الليل، وهذا الفصل من السنة وعلى طول هذا الشارع الذي يحتضن ذكريات آلاف العشاق، وأنات مئات المشردين، انتعل نظرة الناس إلي، أتدثر بقليل من الأمل، احمل هذا الطبق الذي كنا نأكل فيه قبل قليل ما اشتريناه أمس..
أراك تنظر إلي باستغراب..!
أنصحك بتغيير زاوية نظرك، مثلا؛ هل لك أن تعرف - أو على الأقل أن تخمن - كم في هذه الباقة التي وضعت على طاولتك من زهرة  ياسمين؟
أعرف أنك لا تهتم كثيرا بعددها، وأفترض أنك لا تهتم إطلاقا بالطريقة التي جمعتها بها، ولا كم من الوقت والجهد  بذلت أمي  لأقف الآن على بعد ستة عشر سنتيمترا منك وأقدم لك باقة من الياسمين.
أعرف أيضا أنك قد لا تقيم وزنا لرائحتها الزكية،  بل قد تفضل  رائحة الدخان الأمريكي الفاخر الذي تداعب..
لست وحدك في ذلك، أنظر مدى بصرك في هذا الشارع، تشهد كل طاولة في سلسة المقاهي المتراصة هذه، على مواظبتي.. بل على كرمي.
إنني أهدي هؤلاء المتسكعين هنا، الهاربين من جحيم اللون الأحمر في الأخبار العاجلة، أو المصدومين من انهيار سعر الدولار، أو المتألمين من هجر حبيب أو الباحثين عن ثمن رغيف... أهديهم فسحة أمل.. أو لحظة تأمل.
لست بارعا في التسويق كما ترى، لا استدر جيوبهم بالحديث عن فوائد المشموم، ولا أناقش معهم ثمنه.. بل على العكس إن ربحي ممن يصدني بانتهار أضعاف ربحي من هذا الدينار..
أسمع كل يوم مواعظهم عن الدراسة وعن اليونسيف وقانون العمل، لكنهم يجهلون أن ثلاث فتيات وبقية حياة أم رملتها ذات يوم في هذا الشارع رصاصة جندي مجهول امتشق رشاشه وأفرغه في صدور متجمهرين يخشون على أبنائهم مصيرا كمصيري، أن كل أؤلئك وأنا، نعيش من " المشموم".
هل تعرف قصة هذا " المشموم"..؟!
دعني أحدثك: في المساحة الصغيرة جدا شمال كوخ الصفيح الذي يأوي إليه أربعتنا كل مساء، ابتكرت أمي هذه الحرفة، تغذي جنينتها الصغيرة بالماء الذي استعمل للغسيل، وعند الغروب، حين تنحني زهور الياسمين تعظيما لكفاحنا، تقطف أمي ست عشرة زهرة بلطف كل مرة،  تجمعها برفق حول اثني عشر عودا رقيقا من بقايا حصيرنا الذي جلبناه من الريف يوم حصل أبي على وظيفة فراش في بلدية تونس العاصمة، تفتل خيطا رقيقا من طرف ثوبها، تجمع  كل ثمان وعشرين زهرة حول اثني عشر عودا وتلف حولها الخيط عشر مرات، ثم توزعها بيننا؛ تعطيني ثمان وعشرين  باقة ولأختى الوسطى اثنتي عشرة، ولأختى الكبرى عشرين وللصغرى عشرا.
تطلب مني أن أكتب لها في الورقة التي كانت كشف راتب آخر شهر عمل فيه أبي  عدد الباقات التي أخذ كل منا، وأن أجمعه، تفعل ذلك كل يوم، مما جعلني أوهمها بأني كتبته لكني لا أفعل، فالمجموع دائما سبعين باقة تماما كما كانت علاوة الأنباء في كشف راتب أبي، تساءلت مرة عن سر حرص أمي على هذا التوزيع، وحين كتبت الأعداد هكذا 28+12+10+20 عرفت أنه تاريخ وفاة أبي، خلال ثورة الياسمين، هل فهمت الآن أن هذا المشموم هو الوحيد الذي يجعلني وأخواتي وأمنا نتذكر كل يوم أننا نوزع الأمل على الناس في الشارع الذي قتل فيه أبونا من أجل أن ينعموا بهذه الجلسة..
هيه.. هيه.. هل ستدفع لي دينارا أم آخذ باقتي؟


تونس 25-08-2011

ليست هناك تعليقات: